نعيش اليوم في عصر السرعة كما يُقال، وقد فرضت طبيعة الحياة في عصرنا هذا متطلبات جديدة ونمط حياة مختلف عن كل ما عرفته البشرية خلال تاريخها الطويل، وأصبح من الضروري القيام بأكثر من مهمة في نفس الوقت لإنجاز أكبر قدر ممكن من العمل في أقصر وقت ممكن. تؤثر ضغوط العمل المتزايدة بالإضافة إلى التنافس الشديد في سوق العمل على الصحة النفسية والجسدية بشكل مباشر، وقد قدَّرت منظمة الصحة العالمية في عام 2016 أن ساعات العمل الطويلة وقلة الإجازات والراحة المنتظمة قد تسببت بوفاة ما يقارب 745 ألف شخص بأمراض القلب والسكتات الدماغية، بزيادة بلغت 29% عن عام 2000.
ضغوط العمل وتأثيراتها
يمكن لبيئة العمل وطبيعته أن تكون مجهدة في بعض الأحيان، ليس من الخاطئ أن نبذل قصارى جهدنا لتحقيق النتيجة المرغوبة والإنتاج المثالي لكن لجسدك ولنفسك حق عليك، وكما تحتاج العضلات إلى الراحة والتغذية الجيدة بعد النشاط الفيزيائي أو التمارين الرياضية، لا بد من الراحة وقضاء وقت ممتع مع الأصدقاء والعائلة لإعادة شحن طاقتك والعودة إلى العمل بكل نشاط وحماس بعد الاستراحة أو الإجازة.
وضع عالم النفس هربرت فريدنبرغ Herbert Freudenberger في عام 1974 مصطلح الإرهاق Burnout ليصف به حالة الاستنزاف الجسدي والنفسي الناجمة عن ضغط العمل المفرط أو التوتر المستمر، وذلك بعدما انتبه العالم لشيوع هذه المشكلة وتأثيراتها البالغة، ومنذ ذلك الحين أجريت عشرات الدراسات للبحث في أسباب وطرق تشخيص هذه الحالة وعلاجها ودور الراحة الدورية وقضاء الوقت الممتع والترفيه في تحسين الصحة النفسية والجسدية، ويمكن تحديد هذه الإيجابيات والفوائد بالنقاط التالية:
استعادة التركيز وتنشيط الذاكرة
يعد الدماغ البشري أكثر أعضاء الجسم تعقيدًا وحساسيةً، وربما لم تكتشف كل أسراره حتى الآن، ومع ذلك فإن الدماغ مثل أي عضو آخر محدود في قدراته، ولا يمكنه التركيز لفترات طويلة دون أخذ استراحات دورية متكررة. أظهرت دراسة نشرت في مجلة Cognition أن تقسيم مدة العمل إلى فترات زمنية متعددة يتخللها استراحات صغيرة تحسن قدرتك على التركيز بشكل ملحوظ وتعطي ذاكرتك الفرصة لاستيعاب ما تلقته من معلومات وحفظها قبل البدء بدورة جديدة من العمل.
أما إذا كنت ترغب باستراحة أكثر عمقًا وفائدة، يمكنك أن تعوِّد نفسك على أخذ قيلولة قصيرة تتراوح بين 15-20 دقيقة في مكان هادئ وعاتم قليلًا، تمنح هذه القيلولة فرصةً لدماغك لمعالجة المعلومات وتنظيمها واستعادة التركيز من جديد.
التخلص من التوتر وضغوط العمل
إن التوتر والقلق جزء أساسي وطبيعي من أي عمل، والإفراط في العمل يعني زيادة هذه الضغوط والتوترات التي قد تؤدي في النهاية إلى حلقة مفرغة من القلق والتوتر المزمن Chronic Stress.
أشارت العديد من الدراسات إلى المخاطر الصحية للتوتر المزمن على الصحة الجسدية والنفسية، ومن أهمها:
- الاكتئاب.
- اضطرابات هضمية.
- صداع.
- تشنج عضلي وآلام الهيكلية.
- زيادة احتمال الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية والسكتات الدماغية.
- اضطرابات النوم.
- اضطرابات في الذاكرة والتركيز.
ستؤدي هذه التأثيرات السلبية إلى خفض إنتاجيتك في العمل أو الدراسة، ولمحاولة تجنبها يمكنك القيام بالخطوات التالية:
- خذ قسطًا وافرًا من النوم في أيام العطل.
- اذهب مع أصدقائك أو عائلتك إلى حديقة أو متنزه طبيعي واقضِ معهم وقتًا ممتعًا وهادئًا.
- حافظ على ممارسة الرياضة بانتظام مثل: الجري أو السباحة أو اليوغا، أو الرياضات الجماعية.
- استغل وقت العطلة في ممارسة هواياتك والأنشطة التي تستمع بها، مثل: الذهاب إلى السينما، أو حضور حفلة موسيقية، أو لعب ألعاب الفيديو المفضلة لديك، أو قراءة كتاب معين.
- تواصل مع الأشخاص المقربين منك واشرح لهم ما تعانيه من ضغوط وتوترات ويمكنك استشارة طبيب نفسي مختص ليساعدك على تجاوز القلق والتوتر.
تمتَّع بالصبر والحكمة عند مواجهة المصاعب
من الشائع جدًا أن تواجه في أثناء عملك مشكلة يصعب حلها، وقد تدفعك مثل هذه المشاكل للغضب ونفاد الصبر وزيادة الضغوط والتوتر، عندها لا بد من التوقف وأخذ استراحة، وأعطِ تفكيرك المساحة التي يحتاجها، فقد تجد الحل الذي تبحث عنه هناك. يشير مصطلح الحضانة Incubation في علم النفس إلى عملية المعالجة اللاواعية التي يقوم بها الدماغ للمشكلات التي نواجهها عندما نضعها جانبًا ونمارس نشاطًا آخر، ليظهر لنا فيما بعد الحل الذي كنا نبحث عنه، وقد أكدت الكثير من الدراسات حقيقيّة هذه الظاهرة وأهميتها.
لذا في المرة القادمة التي تواجهك مشكلة في عملك تبدو مستحيلة الحل، ضعها جانبًا وخذ استراحة أو مارس نشاطًا آخر بعيدًا عن جو العمل، لأن ذلك سيساعدك بالتأكيد على القيام بأفضل أداء وإيجاد الحل المناسب.
تناول وجبات صحية بشكل منتظم
إن الإفراط بالعمل والقلق والتوتر المستمر والإرهاق الدائم جميعها عوامل تخفّض الإنتاجية وتقلل النشاط والتركيز، ولذلك تتجه الكثير من الشركات المتطورة حاليًا إلى بناء مطاعم صغيرة ومراكز للترفيه ضمن مقراتها لتساعد الموظفين على الابتعاد عن ضغوط العمل، ومن جهة ثانية تدفع هذه الأماكن نحو بناء علاقات جديدة بين الموظفين لا تنحصر فقط في إطار العمل والوظيفة، فالعلاقات الجيدة بين كادر العمل تزيد الحماس والطاقة داخلهم خاصةً في أوقات تناول الوجبات المشتركة، وتخرجهم من حالة القلق والتوتر، وتساعدهم على مشاركة مشاكلهم سويًا والوصول إلى حلول مناسبة، وتدفعهم نحو إعادة تقييم الأهداف والتعرف على أبرز المستجدات الحاصلة. حاول ألا تتجاوز استراحة الغداء، واذهب إلى المطعم ضمن مكان عملك وتعرف على زملاء جدد أثناء استمتاعك بوجبة لذيذة. سيساعدك هذا كثيرًا على الشعور بالإيجابية تجاه مكان العمل والحماس للذهاب مرة ثانية ومقابلة أصدقائك الجدد والتخلص من ضغوط العمل الكبيرة.
تجنب الجلوس لفترات طويلة
سواء كان عملك يتطلب جهدًا جسديًا كاملًا أو جلوسًا لساعات طويلة خلف المكتب أو الالتزام بوضعيات معينة كل ذلك سيؤدي في النهاية لمزيد من الإنهاك والتعب. من الأفكار الخاطئة أيضًا أن الجلوس في المكتب لفترة طويلة أمر غير متعب أو غير شاق، إذ تشير الدراسات إلى الآثار الصحية السلبية التي يتركها الجلوس لساعات طويلة في المكتب أو ضمن مكان العمل (7)، منها: كسب الوزن الزائد، وارتفاع التوتر الشرياني، وارتفاع مستويات سكر الدم، وارتفاع الشحوم والكوليسترول، وزيادة خطر الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية، والسرطان، بالإضافة لآلام المفاصل وأسفل الظهر نتيجة الجلوس بوضعية خاطئة لساعات، والتأثيرات السلبية على العين نتيجة سطوع شاشة الكمبيوتر، ولتجنب كل هذه التأثيرات السلبية يمكنك القيام بالخطوات التالية:
- خذ استراحة كل 30 دقيقة تقريبًا تغير فيها وضعيتك وتنشط دورتك الدموية وتحرك مفاصلك.
- احرص على ممارسة الرياضة بانتظام بعد الانتهاء من العمل، سواء كانت رياضة جماعية في النادي أو المشي والجري في حديقة عامة.
- لا تتأخر في طلب استشارة الطبيب المختص إذا عانيت من أي عارض صحي يرتبط بعملك، في الحقيقة من الأفضل القيام بفحوصات دورية للكشف المبكر عن العديد من هذه الأمراض الخطيرة قبل ظهور أي أعراض حتى.
- تُظهر الحقائق السابقة التأثيرات الهامة لضغوط العمل والإرهاق الناتج عنها على الصحة الجسدية والنفسية للفرد، ويمكن من خلال الالتزام بالتوصيات المذكورة تقليل هذه التأثيرات للحد الأدنى، وزيادة إنتاجيتك في العمل أو الدراسة على المدى الطويل.